نجاح المطاعم السورية في مصر: شطارة سورية أم مرونة مصرية؟ 

2024.07.27 | 07:08 دمشق

آخر تحديث: 27.07.2024 | 07:08 دمشق

لم تنظر مصر إلى الموضوع السوري سياسياً كقضية لتحقيق المكاسب والانتفاع والبيع والشراء، كما فعلت دول كثيرة أخرى باعت واشترت واستثمرت في الملف السوري و"كوعت" المرة تلو الأخرى، مع أن اللعب السياسي يقتضي ذلك أحياناً
+A
حجم الخط
-A

في جلسة مع أحد أصحاب أكبر سلاسل المطاعم السورية في القاهرة، كان لا بد للحديث أن يتوقف عند أحوال الجالية السورية في مصر، وشؤونها القانونية والاجتماعية والاستثمارية، بخاصة في ضوء النواظم الأخيرة التي وضعتها السلطات المصرية.

يؤكد ذلك المستثمر، الذي لديه علاقات مع جهات عدة من أصحاب القرار في الدولة المصرية، أن الأمر لا يتجاوز إعادة ضبط ملف اللجوء والهجرة إلى مصر، في ضوء وصول ملايين السودانيين إليها، وأن هناك أبواباً قانونية مفتوحة أخرى لحل المشاكل القانونية للجالية السورية من مثل الانتقال من الإقامة السياحية إلى الاستثمارية أو الدراسية أو فرصة الحصول على إقامة لاجئ عبر مكاتب الأمم المتحدة، وأن السلطات المصرية لم تصل بها الأحوال إلى فكرة تهجير السوريين أو إعادتهم قسراً، أو ترحيلهم. ومصر مهما أمعنت في تنفيذ النواظم التي وضعتها فإنها تترك أبواباً للحلول، إضافة إلى أن القانون المصري مرن إلى حد كبير، مع أن السلطة الحاكمة ذات جذور عسكرية وليس لديها ادعاءات ديمقراطية كبيرة.

في الجلسة ذاتها سألت ذلك المستثمر عن صدى حملات وسائل التواصل الاجتماعي التي تقودها صفحات مصرية، ومدى وجودها في الواقع، فدعاني إلى جولة في سلسلة مطاعمه، حيث وجدنا أن معظم الزبائن مصريون، وهذا لم يتحقق في أي بلد آخر، وأرجع السبب الرئيس إلى أن نكهة الطعام السوري تختلف اختلافاً جذرياً عن نكهة الطعام المصري، وبالتالي أضافت المطاعم السورية نكهة جديدة مختلفة إلى المائدة المصرية، وهذا على العكس من حالة المائدة السورية مع موائد الدول المجاورة التي تتشابه معها في النوعية والنكهة إلى حد كبير كما هي حالة الأردن ولبنان وتركيا، لذلك فإن النجاح بقي محدوداً هناك، وغالبية زبائن المطاعم السورية في تلك الدول من الجالية السورية أو الجاليات العربية الزائرة أو المقيمة. أما أبناء البلد نفسه فإنهم قليلاً ما يرتادون المطاعم السورية. وفي الوقت نفسه، وفقاً لرأي أحد شركاء تلك الجلسة الحوارية،  لا يمكننا أن نغض النظر عن كلفة الوجبة البسيط في مصر مقارنة بدول أخرى، وأن الأمر في جانب من جوانبه له علاقة بالضرائب وإجراءات الاستيراد وهي تعد إجراءات مرنة جداً مقارنة بالدول الأخرى وكذلك وفرة المواد الأولية في السوق المصرية.

لم تنظر مصر إلى الموضوع السوري سياسياً كقضية لتحقيق المكاسب والانتفاع والبيع والشراء، كما فعلت دول كثيرة أخرى باعت واشترت واستثمرت في الملف السوري و"كوعت" المرة تلو الأخرى، مع أن اللعب السياسي يقتضي ذلك أحياناً

وأفاض ذلك المستثمر السوري في الحديث عن عوامل النجاح الأخرى من مثل كون العمالة المصرية عمالة ذات تكلفة أقل، وتعتمد المطاعم في جزء كبير من الدخل على فكرة "البقشيش" الذي يقدمه الزبون للعامل بأريحية. وأشار إلى أن المصريين يشكلون نحو سبعين بالمئة من العاملين في مطعمه. إضافة إلى عامل ثقافي يكمن في كون تلك العمالة عربية، تتشارك معك اللغة والثقافة والعادات والتقاليد وتبحث عن فرصة عمل آمنة وجدية، حيث لا ترى حرجاً في أن تعمل بإدارة سورية، معيداً ذلك إلى نمط الشخصية المصرية المرن والمثابر. إضافة إلى وجود شريحة كبيرة من العمالة المصرية التي تعتمد على التجربة أكثر من اعتمادها على الدراسة، مركزة على مزايا الشخصية المصرية البشوشة والطيبة والمبادرة والمرنة.

ولفت الصديق المستثمر إلى أن الشخصية المصرية معتدة بذاتها وثقافتها وحضورها وتاريخها؛ غير أنها ليست شخصية عنصرية، أو منغلقة، بل إنها تعد أن أحد جوانب تميزها يكمن في انفتاحها على الآخر، وتعتز أن تكون مصر محجاً للعرب من مختلف البلدان، على العكس من شعور مواطني بعض الدول المحيطة بسوريا.

ويسهب الصديق المستثمر في الحديث عن وجهة نظر عدد من صانعي السياسة المصريين بخاصة في الجانب الاستثماري حيث إنهم يعدون أن كل مشروع يقام على الأرض المصرية هو استثمار مصري بمعنى من المعاني لأن العمال سيكونون مصريين والأرض مصرية والمنتج مصري، وما المستثمر إلا محرك للحركة الاقتصادية في مصر، وأن فكرة الانغلاق على الذات صارت من الماضي، ليس في الجانب الاقتصادي فحسب بل كذلك في الجوانب الاجتماعية والثقافية والمعرفية والحياتية...

لا يسهب المستثمر السوري في الحديث طويلاً عن فكرة التاريخ المشترك وأيام الوحدة المصرية السورية، بل يركز على فكرة براغماتية الشخصية المصرية وعمليتها وعدم انشغالها بقضايا الأنا المنتفخة المرضية، لأن "شبع" الأنا المصرية التاريخي والاعتزاز الثقافي جعلها ترى أنها أقرب إلى ذاتها بالانفتاح على الآخر، وليس لديها عقد نقص تاريخية تجاه الآخر لتنغلق على ذاتها، أليست مصر بأحد التسميات: أم الدنيا، فهل يليق بأم الدنيا أن تضيق بضيوفها!

في نهاية تلك الجلسة التي انضم إليها مستثمرون سوريون آخرون حاولت أن ألخص معهم الأسباب الموضوعية للنجاح الاستثماري السوري في مصر في مجال الطعام وغيره:

-لم تنظر مصر إلى الموضوع السوري سياسياً كقضية لتحقيق المكاسب والانتفاع والبيع والشراء، كما فعلت دول كثيرة أخرى باعت واشترت واستثمرت في الملف السوري و"كوعت" المرة تلو الأخرى، مع أن اللعب السياسي يقتضي ذلك أحياناً.

-الكثير من السوريين الذين ذهبوا إلى مصر كانت نواياهم استثمارية والبحث عن آفاق جديدة لحياتهم، ولم يذهبوا بنية التعويل على أن ذهابهم هناك إلى أرض مساعدات، بل إلى أرض استثمار، وكذلك الحالة المادية للكثيرين ممن ذهبوا إلى هناك، إضافة إلى أن مصر ليست أرض عبور إلى أوروبا بل أرض استقرار لمن يرغب.

-نمط الشخصية المصرية المرن والطيب والمطاط، المعتد بذاته، غير العنصري.

-قدرة الشخصية السورية على توليد الفرص في حال توفرت حدود دنيا من الظروف الموضوعية ودأبها واجتهادها.

-خصوصية الطعام السوري ونكهاته المختلفة إذا ما قارناه مع الطعام المصري وقدرة المطبخ السوري على توليد وجبات طعام "ترند" مقاربة للسوق العالمية عبر نكهته الخاصة وبهاراته ومذاقه الخاص، ومرونة الشخصية المصرية في تقبل الجديد.

-خبرة السوريين في إدارة المطاعم وكذلك المحافظة على النظافة وسرعة التخديم والعمل الطويل في مجال الاستثمار.

-مرونة القوانين المصرية في مجال الاستثمار وإمكانية الاستثناءات العلنية والمخفية.

-توفر العمالة والمواد الأولية والزبون مما جعل الأمر يعود إلى جودة المنتج واختلافه.

-نمط الحياة الليلية الذي تعيشه مصر وافتقاد الحياة إلى حالة تنميطية، مما يجعل العمل في الكثير من المطاعم مستمراً 24 ساعة وبالتالي إمكانية نجاحها أكثر حيث إن هناك تشابهاً ثقافياً وحياتياً بين سوريا ومصر مما جعل المجتمع مرحباً بذلك القادم السوري ولا يرى أنه يخالف قيم مجتمعه أو يختلف عنه.

يؤكد ذلك المستثمر ومستثمرون آخرون أن مسؤولية إنتاج الطعام وتخديم الزبون مسؤولية كبيرة جداً، ذلك أن الزبون لا يأتي إلى المطعم وهو بحالة طبيعية لأنه جائع وبالتالي لا تكون حالته النفسية حالة طبيعية بل يكون مشدوداً ومتلهفاً لتناول طعامه بسرعة، غالباً، غير أنه يتم التغلب على رغبته بالخدمة السريعة، فوق طاقة مطابخ تلك المطاعم أحياناً بالابتسامة والتواصل معه وإشراكه بالحلول.

المدهش كان في نهاية تلك الجلسة أن ذلك المستثمر في مجال الطعام قال: نحن نقدم في مطاعمنا أكثر من عشرين ألف وجبة يومياً، ويؤكد أنه في كل دقيقة نقدم ما معدله 15 وجبة والمطعم ليس آلة تنتج الطعام، بل يقدم وجبة طازجة تمر بمراحل عدة لتكون جاهزةً..

حين سألت أولئك المستثمرين في نهاية الجلسة عن عدد الوجبات المتوقع الذي تقدمه المطاعم السورية في مصر يومياً تحدثوا عن رقم يتراوح بين نصف مليون إلى مليون وجبة!

غير أن أحدهم ممن حصل على الجنسية المصرية، نتيجة استثماراته، قال: من الصعب أن تقول إنها مطاعم سورية! بل ربما الأفضل أن تقول إنه طعام على الطريقة السورية أو مطاعم بإدارة سورية، لأن المواد الأولية مصرية ومعظم العاملين مصريون وغالبية الزبائن مصريون، وكذلك رأس المال يدور في مصر!

 

 

 

كلمات مفتاحية